ملامح من الإستراتيجية السّياسيّة للإمام عبد الحميد ابن باديس
الخميس 30 يوليو 2020 - 12:30
الحديث عن مسيرة العلامة الجزائري عبد الحميد ابن باديس، له ميزته الخاصة باعتباره رائد النهضة الإسلامية والحركة الإصلاحية في الجزائر وفي الوطن العربي ومؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إلا أن إلغاء الإحتفال بذكرى وفاته هذه السنةو التي سبقتها راجع لعدة أسباب منها الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير 2019 التي أرادها جزائريون أن تكون باديسية لا باريسية وهذ ا العام بعد فرض الحجر الصحي إثر ظهور فيروس كورونا كوفيد 19، وكما هو معلوم فقد حفلت مسيرة العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس بالمشاهد والتحديات الفكرية والتاريخية في الدفاع عن الهوية والعروبة، فكانت حياته كلها مواقف، جعلته موضع انتقادات وهجوم من أعداء حاولوا تكسير مسيرته، والطعن في منهجه الإصلاحي، بالرغم من أن منهجه كان منهجا حاملا للقرآن هدفه الإنسان
فالظاهرة الباديسية كانت و لا تزال موضع اهتمام الباحثين الأكاديميين، من داخل و خارج الجزائر سلطوا في بحوثهم الضوء في مسارات الإمام الإصلاحية وتمسكه بالثوابت من أجل الحفاظ على " الهوية " و بناء مجتمع واعي، لاسيما وهو القائل أن الأمة الجزائرية ليست فرنسا ولن تكون كذلك، فقد كان رهان ابن باديس هو بناء دولة ترتكز على الرقي العلمي والثقافي والتاريخي للبلاد، باعتبار أن التاريخ واحد من المرجعيات التي تبنى بها الهوية الوطنية، فقد تميزت مسيرة الإمام عبد الحميد بن باديس بتصحيح العقائد ألإسلامية التي تسربت إليها البدع والخرافات من جراء بعض الممارسات الطرفقية، وكذا الصراعات السياسية، كانت الساحة الجزائرية ترزح تحت وطأة أبشع نظام استعماري عرفته البشرية استهدفت فيه العقائد، فكان على ابن باديس إلا أن يقف في وجه الفرنسة والتغريب، حيث أسهم في إثراء اللغة العربية وأصول الحكم وإشكالياته، فكانت نصوصه وكتاباته لا تخلو من السياسة وهو يُعَبِّرُ عن مفهوم الوطنية والهوية بتعبير حديث، أما على الصعبد الفكري الفلسفي، فقد كان لإبن باديس ثقافة فلسفية دينية، قريبة إلى حد ما بفلسفة محمد عبده، فكانت له إضافات في هذا الجانب.
تشير دراسات أن ابن باديس تأثر ببعض العلماء حين التقى بهم بجامع الزيتونة على غرار أستاذه الشيخ محمد البشير صفر، الذي كان له الفضل في اطلاع ابن باديس على أمته ووطنه وبث فيه الروح التي جعلت منه عالما مصلحا، كما تأثر ابن باديس بالفكر الخلدوني، حيث حرص حرصا شديدا على دراسة مقدمته الشهيرة وتدريسها لتلامذته بعد كل صلاة الفجر، كذلك الشيخ محمد النخلي المتوفي عام 1824، وكان هذا الأخير قد وجّه ابن باديس إلى التركيز على التاريخ الأصولي في الأندلس، وكتابات ابن العربي، ومن هذا المنطلق عكف ابن باديس على دراسة كتاب "العواصم والقواسم"، الذي الفه ابن عربي، وتكفل بنشره عام 1928 على نفقته، بالمطبعة الإسلامية بقسنطينة وهو يقع في جزئين، والذي كما يقال أقام إمبراطوريات وأسقط أخرى وهي واحدة من مخطوطات ابن العربي، ولعل تحقيقاته لهذه المخطوطة إحدى الدلائل التي تجعل من ابن باديس محققا ومدققا، حينما عكف على دراسة مرحلة النبوة وما بعد النبوة، وتحليله مجتمع الخلافة الراشدة، بعدما رأى أن التصورات المذهبية والسياسية مسّت التاريخ الإسلامي في محطاته الواسعة، وبالخصوص المرحلتين الأموية والأندلسية، وما شهدته من صراعات قومية شعوبية.
و قد تحدث الباحثون عن هذه المخطوطة لاسيما الدكتور الطاهر بونابي مختص في التاريخ الوسيط من جامعة المسيلة، تحدث هذا الأخير عن المشروع النهضوي عند ابن باديس وقال أن الوعي التاريخي هو حالة الشعور بالذات والهوية في إطار ما سمّاه ابن باديس بالإسلام الذاتي الذي هو حالة من التحقيق والنقد في مناهج العلوم، مشيرا أن ابن باديس لم يستمد وعيه التاريخي من الفلسفات النظرية، وإنما هناك دوافع جعلته يقف على التاريخ العربي الإسلامي في القرن السادس هجري أي العاشر للميلاد وسمّاه إنسان ما بعد الموحدين، لقد لعبت المدرسة الباديسية دورا هاما في تربية النشء وبرز منها كتاب ومؤرخون وأدباء وفلاسفة وأصبحت شهرتها إلى جانب المدرسة العبدوية (نسبة إلى محمد عبده) عالمية في الشرق والغرب، وهناك من حمل رايته بعد وفاته، ومنهم المؤرخ الجزائري امبارك الميلي، ونجله محمد الميلي، الفقيه الشيخ أحمد حماني، وأحمد رمضان، وعبد الرحمان شيبان وغيرهم، وكما قال الدكتور عبد الرزاق قسوم الرئيس الحالي لجمعية العلماء المسلمين الجزائيين، فالجزائر اليوم بحاجة ماسّة إلى المنهج الباديسي، للقضاء على ظواهر التفكك الإجتماعي والسياسي، والثقافي، وإعادة تصحيح المفاهيم الحضارية وتأصيل معانيها خاصة في هذا الظرف بالذات أضحت تعاني شتى أنواع الإضطرابات.
التجربة الباديسية في الدفاع عن الهوية الوطنية
لقد كان الإمام عبد الحميد بن باديس في دروسه يدعو طلبته إلى الإلمام بالماضي وقراءة التاريخ، والدفاع عن الهوية الوطنية وكان في كل حلقاته ودروسه يردد على مسامعهم بأنه وجب معرفة التاريخ، ويؤكد لهم أن من عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة به في هذا الوجود، السؤال الذي وجب أن يطرح اليوم هو كالتالي: كيف يمكن لهذا الجيل أن يستفيد من تراث ابن باديس؟، لا شك أن الرد سيكون بتنزيل تراثه على الواقع حتى لا يبقى مجرد فكرة بل وجب تحويله إلى ممارسة يومية من خلال معالجة القضايا الحسّاسة التي آمن بها الجيل الحالي الذي خرج في مسيرات شعبية لأكثر من سنة وقال : "نريدها جزائر باديسية لا باريسية" وناشد بالتغيير الجذري في مختلف مجالات الحياة لاسيما الجانب الإجتماعي والثقافي، ومحاربة "التغريب" و"الفرنسة" التي تحاول أطراف تكريسها في الثقافة الجزائرية الأصيلة، وهو بذلك أراد التعبير بأن جيل اليوم جيل واع بل أصبح أكثر وعي ويريد السير على منهج الإمام ابن باديس، بالمحافظة على الأصول والإنفتاح على العصر المعروف بالأصالة والتفتح والدفاع عن "الهوية" الوطنية من دين ولغة وانتماء حضاري، يقول ابن باديس : "لقد درست تاريخ الأمم، فوجدت الأمم تنهض بشيئين اثنين: إما بكثرة العلم، وإما بكثرة الظلم، أما العلم فنحن فيه فقراء، وأما الظلم فنحن فيه أغنياء، اللهم إن كنت تريد إنهاضنا بكثرة الظلم فنحن لك من الشاكرين"، فابن باديس كما يقول الدكتور مصطفى باجو من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة لم يغفل ما أبدعه العصر من وسائل التأثير وتشكيل الرأي العام والتأثير على مجريات الأحداث فتوجّه للصحافة وأنشأ الجرائد لمتابعة الأحداث ومعالجة الأدواء وتبصير الناس بحقيقة الإستعمار الذي أراد أن تكون الجزائر فرنسية.
وهو يرافع لصالح الهوية الوطنية، قال الإمام عبد الحميد ابن باديس: " إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم من الشدّة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السرّاء والضرّاء حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا، أمّه الجزائر وأبوه الإسلام"، في هذه العبارة الذهبية المقدسة يتجلىّ أثر التربية الإسلامية في صناعة الضمير الجزائري الحرّ، القائم على الوئام والمصالحة والتسامح مع الناس مهما اختلفوا، فقد بيّن ابن باديس أن الهوية الوطنية تتشابك فيها خيوط العروبة والأمازيغية ويستظل الجميع تحت راية الإسلام التي وحّدت الصفوف وصهرت القلوب عبر التاريخ، وهي لا شك تجربة شاملة ورائدة تؤكد عظمة الشعب الجزائري الذي يواجه اليوم مخططات ذكية لطمس معالم الشخصية الجزائرية والسعي للهيمنة الفكرية عليها تحت ستار العولمة الثقافية في إطار صراع الأقوياء، لإحتلال مواقع النفوذ في عالم الفكر والثقافة والإقتصاد، هذه الظروف دفعت بجيل العصرنة الخروج إلى الشوارع في مسيرات شعبية عرفت بثورة 22 فبراير، للتصدي لكل ماهو تغريبي بالرغم من تطور التقنيات وتنوع الإمكانيات ودخول عصر الإنترنت الذي جعل العالم كله قرية صغيرة.
فرنسا وظفت جمعية الآباء البيض ضد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
فمن يقرأ فكر ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين يقف على حقيقة أنه داع للقومية الإسلامية (لا هي عربية ولا هي أمازيغية ولا هي علمانية ولا هي بعثية) مرتكزا في ذلك على التربية الإسلامية والثقافة الإسلامية وليس على وحدة الأصول "العرقية"، وقد ذهب بعض الباحثين في هذا الإتجاه ومنهم الدكتور أحمد بن نعمان الذي عالج في بحوثه المغالطات العرقية في القومية عند ابن باديس ومنهجه في تشخيص الواقع العربي والإسلامي، واقع تعددت فيه الإتجاهات فمنهم من قال ان التراث الثقافي والإجتماعي المشترك هو أساس التجنس في الوطن العربي، وأعطوا ضمنيا فكرة العِرْق أهمية بالغة ومنهم الأمير مصطفى الشهابي الذي يفضل الدم العربي على باقي الأقوام، فيما عبّر معارضون عن رفضهم فكرة وحدة العرق في تكوين المجتمع القومي من أساسها، ولذا عمل ابن باديس على إبعاد العامل العرقي في تكوين الأمّة المبنى أساسا على وحدة الدين ووحدة اللغة وآدابها، فبالرغم من أنه أمازيغي قحّ، فقد كرّس ابن باديس الصنهاجي حياته مدافعا عن اللغة العربية والعروبة مختلفا في ذلك عن أصحاب الإتجاه الأممي الذي يعتمد على الدين وحده ويسقط العوامل الأخرى كاللغة والثقافة والتاريخ، ومختلفا كذلك عن الإتجاه العلماني الذي ينفي عامل الدين في القومية وخاصة الإتجاه البعثي لأسباب طائفية.
كانت الحرب الباديسية حرب أفكار وقيم، فقد قدم ابن باديس ورفاقه في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين صورا زاهية تنطلق من التذكير بفترات من الماضي التاريخي الزاهر وتغذية الآمال بمستقبل يتحررون منه من الإستعمار، لم تكن الحرب بين الجزائر وفرنسا حربا عسكرية واقتصادية فقط بل كانت حربا دينية بكل المقاييس، لكنها كانت حربا غير متكافئة، لأن ميزان القوى فيها راجع لفائدة علماء الإصلاح في الجزائر والوطن العربي الذين قطعوا أنفاس الإستعماريين، الذين لاحقوا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والتصدي لها ومحاربتها منذ تأسيسها في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1931)، ومحاصرتها إعلاميا من خلال توقيف صحفها من قبل الإدارة الفرنسية على غرار صحيفة المنتقد الأسبوعية التي أسسها الشيخ ابن باديس عام 1924 بسبب موقفها من حرب الريف والزعيم عبد الكريم الخطابي، وما لحقها من صحف، وتؤكد الكتابات التاريخية أن الإمام عبد الحميد ابن باديس ركز جهوده في مواجهة الإحتلال الفرنسي على منطقتين هما: الأوراس من جهة وبلاد القبائل من جهة أخرى، وهذا ما جعله يفكر منذ 1924 في تأسيس حركة يكون مقرها مدينة قسنطينة.
كانت أولى حربه التصدي لجمعية الآباء البيض التي سعى الإستعمار إلى توظيفها، كذلك جمعية الأخوات البيض للتبشير بالمسيحية في بلاد القبائل في اوقت الذي حرك فيه افستعمار بعض الزوايا الطرقية لإقناع سكان الأوراس بالخضوع والتسليم بالأمر الواقع على أن الإستعمار قضاء وقدر، فكان ابن باديس في مواجهات عنيفة مع الزوايا والطرقيين، وقد تمكن من السيطرة على الوضع في بلاد القبائل، لأن الزوايا كانت مرتبطة بالسكان ولم تكن متحالفة مع الإستعمار، ومن ثم أدت خدمة كبيرة للغة العربية ونتشط ابناؤها في خدمة حركة الإصلاح الديني سواء كانوا من الجيل القديم مثل الشيخ ابو يعلى الزواوي، أو من الجيل الذي جاء بعده مثل الشيخ سعيد صالحي، والشيخ سعيد البيباني، وهذا باإعتماد على التراث الذي خلفه كل من الشيخ الحداد والمقراني وفاطمة نسومر، أما في الأوراس فقد لعبت الزاوية الدردورية رفي التصدي لمخططات الإستعمار، فعلى الرغم من أن دستور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين غير سياسي، إلا أنه كان لها دور سياسي، فكانت حركة سياسية وطنية في كل تجلياتها ومعانيها، يقول المؤرخ شارل روبير أجرون: إن حركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اتخذت مواقف سياسية تتعارض بصورة مطلقة مع النفوذ الفرنسي، فقد حاربت التفرنس عن طريق تطوير صحافة عربية"، كانت هذه الإستراتيجية السياسية التي رسمها ابن باديس ضمن خطته الإصلاحية الشاملة لبعث الوعي في النفوس ورشد الأفكار.
إعداد/ علجية عيش
تشير دراسات أن ابن باديس تأثر ببعض العلماء حين التقى بهم بجامع الزيتونة على غرار أستاذه الشيخ محمد البشير صفر، الذي كان له الفضل في اطلاع ابن باديس على أمته ووطنه وبث فيه الروح التي جعلت منه عالما مصلحا، كما تأثر ابن باديس بالفكر الخلدوني، حيث حرص حرصا شديدا على دراسة مقدمته الشهيرة وتدريسها لتلامذته بعد كل صلاة الفجر، كذلك الشيخ محمد النخلي المتوفي عام 1824، وكان هذا الأخير قد وجّه ابن باديس إلى التركيز على التاريخ الأصولي في الأندلس، وكتابات ابن العربي، ومن هذا المنطلق عكف ابن باديس على دراسة كتاب "العواصم والقواسم"، الذي الفه ابن عربي، وتكفل بنشره عام 1928 على نفقته، بالمطبعة الإسلامية بقسنطينة وهو يقع في جزئين، والذي كما يقال أقام إمبراطوريات وأسقط أخرى وهي واحدة من مخطوطات ابن العربي، ولعل تحقيقاته لهذه المخطوطة إحدى الدلائل التي تجعل من ابن باديس محققا ومدققا، حينما عكف على دراسة مرحلة النبوة وما بعد النبوة، وتحليله مجتمع الخلافة الراشدة، بعدما رأى أن التصورات المذهبية والسياسية مسّت التاريخ الإسلامي في محطاته الواسعة، وبالخصوص المرحلتين الأموية والأندلسية، وما شهدته من صراعات قومية شعوبية.
و قد تحدث الباحثون عن هذه المخطوطة لاسيما الدكتور الطاهر بونابي مختص في التاريخ الوسيط من جامعة المسيلة، تحدث هذا الأخير عن المشروع النهضوي عند ابن باديس وقال أن الوعي التاريخي هو حالة الشعور بالذات والهوية في إطار ما سمّاه ابن باديس بالإسلام الذاتي الذي هو حالة من التحقيق والنقد في مناهج العلوم، مشيرا أن ابن باديس لم يستمد وعيه التاريخي من الفلسفات النظرية، وإنما هناك دوافع جعلته يقف على التاريخ العربي الإسلامي في القرن السادس هجري أي العاشر للميلاد وسمّاه إنسان ما بعد الموحدين، لقد لعبت المدرسة الباديسية دورا هاما في تربية النشء وبرز منها كتاب ومؤرخون وأدباء وفلاسفة وأصبحت شهرتها إلى جانب المدرسة العبدوية (نسبة إلى محمد عبده) عالمية في الشرق والغرب، وهناك من حمل رايته بعد وفاته، ومنهم المؤرخ الجزائري امبارك الميلي، ونجله محمد الميلي، الفقيه الشيخ أحمد حماني، وأحمد رمضان، وعبد الرحمان شيبان وغيرهم، وكما قال الدكتور عبد الرزاق قسوم الرئيس الحالي لجمعية العلماء المسلمين الجزائيين، فالجزائر اليوم بحاجة ماسّة إلى المنهج الباديسي، للقضاء على ظواهر التفكك الإجتماعي والسياسي، والثقافي، وإعادة تصحيح المفاهيم الحضارية وتأصيل معانيها خاصة في هذا الظرف بالذات أضحت تعاني شتى أنواع الإضطرابات.
التجربة الباديسية في الدفاع عن الهوية الوطنية
لقد كان الإمام عبد الحميد بن باديس في دروسه يدعو طلبته إلى الإلمام بالماضي وقراءة التاريخ، والدفاع عن الهوية الوطنية وكان في كل حلقاته ودروسه يردد على مسامعهم بأنه وجب معرفة التاريخ، ويؤكد لهم أن من عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة به في هذا الوجود، السؤال الذي وجب أن يطرح اليوم هو كالتالي: كيف يمكن لهذا الجيل أن يستفيد من تراث ابن باديس؟، لا شك أن الرد سيكون بتنزيل تراثه على الواقع حتى لا يبقى مجرد فكرة بل وجب تحويله إلى ممارسة يومية من خلال معالجة القضايا الحسّاسة التي آمن بها الجيل الحالي الذي خرج في مسيرات شعبية لأكثر من سنة وقال : "نريدها جزائر باديسية لا باريسية" وناشد بالتغيير الجذري في مختلف مجالات الحياة لاسيما الجانب الإجتماعي والثقافي، ومحاربة "التغريب" و"الفرنسة" التي تحاول أطراف تكريسها في الثقافة الجزائرية الأصيلة، وهو بذلك أراد التعبير بأن جيل اليوم جيل واع بل أصبح أكثر وعي ويريد السير على منهج الإمام ابن باديس، بالمحافظة على الأصول والإنفتاح على العصر المعروف بالأصالة والتفتح والدفاع عن "الهوية" الوطنية من دين ولغة وانتماء حضاري، يقول ابن باديس : "لقد درست تاريخ الأمم، فوجدت الأمم تنهض بشيئين اثنين: إما بكثرة العلم، وإما بكثرة الظلم، أما العلم فنحن فيه فقراء، وأما الظلم فنحن فيه أغنياء، اللهم إن كنت تريد إنهاضنا بكثرة الظلم فنحن لك من الشاكرين"، فابن باديس كما يقول الدكتور مصطفى باجو من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة لم يغفل ما أبدعه العصر من وسائل التأثير وتشكيل الرأي العام والتأثير على مجريات الأحداث فتوجّه للصحافة وأنشأ الجرائد لمتابعة الأحداث ومعالجة الأدواء وتبصير الناس بحقيقة الإستعمار الذي أراد أن تكون الجزائر فرنسية.
وهو يرافع لصالح الهوية الوطنية، قال الإمام عبد الحميد ابن باديس: " إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم من الشدّة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السرّاء والضرّاء حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا، أمّه الجزائر وأبوه الإسلام"، في هذه العبارة الذهبية المقدسة يتجلىّ أثر التربية الإسلامية في صناعة الضمير الجزائري الحرّ، القائم على الوئام والمصالحة والتسامح مع الناس مهما اختلفوا، فقد بيّن ابن باديس أن الهوية الوطنية تتشابك فيها خيوط العروبة والأمازيغية ويستظل الجميع تحت راية الإسلام التي وحّدت الصفوف وصهرت القلوب عبر التاريخ، وهي لا شك تجربة شاملة ورائدة تؤكد عظمة الشعب الجزائري الذي يواجه اليوم مخططات ذكية لطمس معالم الشخصية الجزائرية والسعي للهيمنة الفكرية عليها تحت ستار العولمة الثقافية في إطار صراع الأقوياء، لإحتلال مواقع النفوذ في عالم الفكر والثقافة والإقتصاد، هذه الظروف دفعت بجيل العصرنة الخروج إلى الشوارع في مسيرات شعبية عرفت بثورة 22 فبراير، للتصدي لكل ماهو تغريبي بالرغم من تطور التقنيات وتنوع الإمكانيات ودخول عصر الإنترنت الذي جعل العالم كله قرية صغيرة.
فرنسا وظفت جمعية الآباء البيض ضد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
فمن يقرأ فكر ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين يقف على حقيقة أنه داع للقومية الإسلامية (لا هي عربية ولا هي أمازيغية ولا هي علمانية ولا هي بعثية) مرتكزا في ذلك على التربية الإسلامية والثقافة الإسلامية وليس على وحدة الأصول "العرقية"، وقد ذهب بعض الباحثين في هذا الإتجاه ومنهم الدكتور أحمد بن نعمان الذي عالج في بحوثه المغالطات العرقية في القومية عند ابن باديس ومنهجه في تشخيص الواقع العربي والإسلامي، واقع تعددت فيه الإتجاهات فمنهم من قال ان التراث الثقافي والإجتماعي المشترك هو أساس التجنس في الوطن العربي، وأعطوا ضمنيا فكرة العِرْق أهمية بالغة ومنهم الأمير مصطفى الشهابي الذي يفضل الدم العربي على باقي الأقوام، فيما عبّر معارضون عن رفضهم فكرة وحدة العرق في تكوين المجتمع القومي من أساسها، ولذا عمل ابن باديس على إبعاد العامل العرقي في تكوين الأمّة المبنى أساسا على وحدة الدين ووحدة اللغة وآدابها، فبالرغم من أنه أمازيغي قحّ، فقد كرّس ابن باديس الصنهاجي حياته مدافعا عن اللغة العربية والعروبة مختلفا في ذلك عن أصحاب الإتجاه الأممي الذي يعتمد على الدين وحده ويسقط العوامل الأخرى كاللغة والثقافة والتاريخ، ومختلفا كذلك عن الإتجاه العلماني الذي ينفي عامل الدين في القومية وخاصة الإتجاه البعثي لأسباب طائفية.
كانت الحرب الباديسية حرب أفكار وقيم، فقد قدم ابن باديس ورفاقه في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين صورا زاهية تنطلق من التذكير بفترات من الماضي التاريخي الزاهر وتغذية الآمال بمستقبل يتحررون منه من الإستعمار، لم تكن الحرب بين الجزائر وفرنسا حربا عسكرية واقتصادية فقط بل كانت حربا دينية بكل المقاييس، لكنها كانت حربا غير متكافئة، لأن ميزان القوى فيها راجع لفائدة علماء الإصلاح في الجزائر والوطن العربي الذين قطعوا أنفاس الإستعماريين، الذين لاحقوا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والتصدي لها ومحاربتها منذ تأسيسها في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1931)، ومحاصرتها إعلاميا من خلال توقيف صحفها من قبل الإدارة الفرنسية على غرار صحيفة المنتقد الأسبوعية التي أسسها الشيخ ابن باديس عام 1924 بسبب موقفها من حرب الريف والزعيم عبد الكريم الخطابي، وما لحقها من صحف، وتؤكد الكتابات التاريخية أن الإمام عبد الحميد ابن باديس ركز جهوده في مواجهة الإحتلال الفرنسي على منطقتين هما: الأوراس من جهة وبلاد القبائل من جهة أخرى، وهذا ما جعله يفكر منذ 1924 في تأسيس حركة يكون مقرها مدينة قسنطينة.
كانت أولى حربه التصدي لجمعية الآباء البيض التي سعى الإستعمار إلى توظيفها، كذلك جمعية الأخوات البيض للتبشير بالمسيحية في بلاد القبائل في اوقت الذي حرك فيه افستعمار بعض الزوايا الطرقية لإقناع سكان الأوراس بالخضوع والتسليم بالأمر الواقع على أن الإستعمار قضاء وقدر، فكان ابن باديس في مواجهات عنيفة مع الزوايا والطرقيين، وقد تمكن من السيطرة على الوضع في بلاد القبائل، لأن الزوايا كانت مرتبطة بالسكان ولم تكن متحالفة مع الإستعمار، ومن ثم أدت خدمة كبيرة للغة العربية ونتشط ابناؤها في خدمة حركة الإصلاح الديني سواء كانوا من الجيل القديم مثل الشيخ ابو يعلى الزواوي، أو من الجيل الذي جاء بعده مثل الشيخ سعيد صالحي، والشيخ سعيد البيباني، وهذا باإعتماد على التراث الذي خلفه كل من الشيخ الحداد والمقراني وفاطمة نسومر، أما في الأوراس فقد لعبت الزاوية الدردورية رفي التصدي لمخططات الإستعمار، فعلى الرغم من أن دستور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين غير سياسي، إلا أنه كان لها دور سياسي، فكانت حركة سياسية وطنية في كل تجلياتها ومعانيها، يقول المؤرخ شارل روبير أجرون: إن حركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اتخذت مواقف سياسية تتعارض بصورة مطلقة مع النفوذ الفرنسي، فقد حاربت التفرنس عن طريق تطوير صحافة عربية"، كانت هذه الإستراتيجية السياسية التي رسمها ابن باديس ضمن خطته الإصلاحية الشاملة لبعث الوعي في النفوس ورشد الأفكار.
إعداد/ علجية عيش
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى